الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأريد بقوله: أنا أو كل واحد منا رسول.{ورسول رب العالمين} فيه رد عليه، وأنه مربوب لله تعالى، بادهه بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية، ولذلك أنكر فقال: وما رب العالمين والمعنى إليك، {وأن أرسل}: يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول، وأن تكون مصدرية، وأرسل بمعنى أطلق وسرح، كما تقول: أرسلت الحجر من يدي، وأرسلت الصقر.وكان موسى مبعوثًا إلى فرعون في أمرين: إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كان إلى فلسطين، وكانت مسكن موسى وهارون.{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)}.ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون، ولم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هنا إنسانًا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال له: ائذن له لعلنا نضحك منه.فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له: {ألم نر بك فينا وليدًا} وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتيا فرعون، فقالا له ذلك.ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية.والوليد الصبي، وهو فعيل بمعنى مفعول، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة.وقرأ أبو عمرو في رواية: من عمرك، بإسكان الميم، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه.وقرأ الجمهور: فعلتك، بفتح الفاء، إذ كانت وكزة واحدة، والشعبي: بكسر الفاء، يريد الهيئة، لأن الوكزة نوع من القتل.عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي، وعظم ذلك بقوله: {وفعلت فعلتك التي فعلت}، لأن هذا الإبهام، بكونه لم يصرح أنها القتل، تهويل للواقعة وتعظيم شأن.{وأنت من الكافرين}: يجوز أن يكون حالًا، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك، والأنبياء عليهم السلام معصومون.ويجوز أن يكون إخبارًا مستأنفًا من فرعون، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان، قاله ابن زيد؛ أو من الكافرين بي في أنني إلهك، قاله الحسن؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن، قاله السدي.{قال فعلتها إذًا}: إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية، لأنه فيه إزهاق النفس.قال ابن عطية: إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى.وليس بصلة، بل هي حرف معنى.وقوله وكأنها بمعنى حينئذ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ.وقال الزمخشري: فإن قلت: إذًا جواب وجزاء معًا، والكلام وقع جوابًا لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون: {وفعلت فعلتك} فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت؛ فقال له موسى: نعم فعلتها، مجازيًا لك تسليمًا لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. انتهى.وهذا الذي ذكره من أن إذًا جواب وجزاء معًا، هو قول سيبويه، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جوابًا وجزاء معًا، وقد تكون جوابًا فقط دون جزاء.فالمعنى اللازم لها هو الجواب، وقد يكون مع ذلك جزاء.وحملوا قوله: {فعلتها إذًا} من المواضع التي جاءت فيها جوابًا لآخر، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجوابًا، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح، ولا قول الأكثرين.{وأنا من الضالين}، قال ابن زيد: معناه من الجاهلين، بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه.وقال أبو عبيدة: من الناسين، ونزع لقوله: {أن تضل إحداهما} وفي قراءة عبد الله، وابن عباس: وأنا من الجاهلين، ويظهر أنه تفسير للضالين، لا قراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.وقال الزمخشري: من الفاعلين فعل أولي الجهل، كما قال يوسف لإخوته: {إذ أنتم جاهلون} أو المخلصين، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى.وقيل: من الضالين، يعني عن النبوة، ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ.ومن غريب ما شرح به أن معنى {وأنا من الضالين}، أي من المحبين لله، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله.قيل: والضلال يطلق ويراد به المحبة، كما في قوله: {إنك لفي ضلالك القديم} أي في محبتك القديمة.وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في: تمنها وعبدت، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، وإنما منه ومن ملئه المذكورين قبل {أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون}، وهم كانوا قومًا يأتمرون لقتله.ألا ترى إلى قوله: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج} وقرأ الجمهور: لما حرف وجوب لوجوب، على قول سيبويه، وظرفًا بمعنى حين، على مذهب الفارسي.وقرأ حمزة في رواية: لما بكسر اللام وتخفيف الميم، أي يخوفكم.وقرأ عيسى: حكمًا بضم الكاف؛ والجمهور: بالإسكان.والحكم: النبوة.{وجعلني من المرسلين}: درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول.وقيل: الحكم: العلم والفهم.{وتلك نعمة تمنها عليّ}: وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: {ألم نر بك فينا وليدًا}؛ وذكر بهذا آخرًا على ما بدأ به فرعون في قوله: {ألم نر بك}.والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة، كأنه يقول: وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدًا، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري.وقال قتادة: هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة، كأنه يقول: أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك.وقرأ الضحاك: وتلك نعمة ما لك أن تمنها، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله.والقول الأول فيه إنصاف واعتراف.وقال الأخفش: والفراء: قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار، وحذفت لدلالة المعنى عليها، ورده النحاس بأنها لا تحذف، لأنها حرف يحدث معها معنى، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئًا، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك، وحكى: ترى زيدًا منطلقًا، بمعنى: ألا ترى؟ وكان الأخفش الأصغر يقول: أخذه من ألفاظ العامة.وقال الضحاك: الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به.وقيل: اتخاذك بني إسرائيل عبيدًا أحبط نعمتك التي تمنّ بها.وقال الزمخشري: وأبي، يعني موسى عليه السلام، أن يسمي نعمته أن لا نعمة، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت.وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدًا، يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدًا، قال الشاعر:
فإن قلت: وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ.وقال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع نصب، المعنى أنها صارت نعمة عليّ، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى.وقال الحوفي: {أن عبدت بني إسرائيل} في موضع نصب مفعول من أجله.وقال أبو البقاء: بدل. اهـ.
|